06 مارس 2011

العافية الفلسطينية


العافية الفلسطينية

.


غالبا ما نستخدم لهجتنا المحلية في أي مكان سواء كان في الوطن أم لا، لنستطيع الوصول إلى المراد، فلا نقدر عواقب اختلاف اللهجات بين المدن المختلفة أو الدول العربية الأخرى. فكثيراً ما تختلف اللهجة في البيت الواحد أحيانا، فما بالك بدولة أخرى، وخصوصا دول المغرب العربي.

بعد شهر من نتائج التوجيهي وُفِقت في أن ألتحق بجامعة بيت لحم لدراسة التخصص الذي طالما أحببت دراسته، بعكس الكثيرين الذين دخلوا الجامعات وتخرجوا منها بتخصص لم يشعروا بانتمائهم له قط، فكانت النتيجة أن عددا كبيرا من أصدقائي لم يسجل بجامعة لأنهم أحسوا باضطراب البال - مشتتين -  وأن مستقبلهم سيتهدد إن دخلوا تخصصا لا يحبونه. أحببت موقفهم ولاسيما أن أتأخر سنة في حياتي يحتاج إلى الكثير من الشجاعة والتحدي. لم أكن أملك هذه الشجاعة إلا حين حصل ما حصل.

انضممت بسلك التعليم في جامعة بيت لحم، وشاءت الأقدار أن يعلن أفراد الحمامة المطوقة إضراباً في اليوم الأول في الدوام، مع أنّ أفراد هذه الجماعة غير مهضومين بالنسبة لي، وللكثيرين، لكن هذا الموقف الذي أعلنوه كان في مصلحة الطلاب الجدد - على حد تعبيرهم – وقد وافقتهم الرأي لأنّ أبي عامل بسيط غير قادر على أن يدفع ما يُدفع. وشاءت الأقدار في أن اجلس بالبيت أسبوعين.

كل لحظات الدنيا تمر بسرعة، إلا اللحظات التي نكون فيها بانتظار مصيري على حد تعبيري. لم يعد يجد نفعاً أن أنتظر أكثر، خرجت من البيت لألتقي بصديقي محمد هيثم. هذا اليوم من حياتي كان ضروريا. لا ضير في أن أفعلها وأتأخر سنة، لم لا، فسأكسب اللغة، وسأجوب دولاً عدة، وسأمتلك التجربة الحقيقة لطالب مبعوث لدراسة اللغة الفرنسية في المغرب. كان كل شيء بالصدفة، ومن هنا كسبت لدي كلمة "بالصدفة" قدسية الكلمة في قاموس حياتي. فملئت الطلب، وألحقته بصوري الشخصية الأربع التي كانت لا تفارق جيبي آنذاك. وسلمت طلب الشجاعة هذا وتحديت للمرة الأولى في حياتي شخصي.

مرت الأيام ولم يصلني رد هذه الجمعية الباعثة. أُعلِنَ استئناف الدوام يوم الاثنين في جامعة بيت لحم، فعدت الطالب البائس الذي لا يتحد أي شيء سوى الكتاب الذي يحمله على ظهره. وفي يوم الخميس التالي وصلتني مكالمة فريدة. نعم لقد قُبلت أنا وصديقي محمد هيثم، وسنسافر سويةً بالطائرة، وسنركب القطار للوصول إلى الحي السكني، وسنعيش أشهر سويةً في غرفة واحدة، في بيئة علمية غريبة. ففي المغرب لا تستغرب. فتركت جامعة بيت لحم سنة لأعود إليها هذا العام.

وصلنا الحي السكني، في لحظات كنت لا استوعب ما حصل وما سيحصل. وفي هذه اللحظة أدركت أنني مشتت الفكر والبال. وبدأت سلسلة أحداث غريبة. فآذان الظهر، يرفه رجل يصيح في الشارع، ووجبة الغذاء، تتعدى ربع ما كنت أتخيل أني سآكل هذا الطعام الغريب. ناهيك عن اللكنة المستخدمة في حيّ الطلاب. فالسود أيضا مقبلين على تعلم الفرنسية.

اليوم الأول في الدوام. من المؤكد عدم وجود حاجز أو إضراب. هنا لسنا بفلسطين. لكننا محمد هيثم وأنا، فوجئنا بإضراب المواصلات العامة - بالصدفة -. استقلينا تاكسي لنصل إلى صرّاف قريب من الكلية.
-          لوتشونج، قيفاش نقدرو نخدمكم؟
-          بدي أصرف 100 دولار.
-          واش؟
-          أريد أن أصرف مئة دولار.
كانت عملية بسيطة، فلولا استخدام العربية الفصيحة لما فعلنا ما فعلنا. ودخلنا قاعة التسجيل متأهبين لنفعلها ثانية، ونتحدث الفصيحة.
-          شنو تغدو دابا؟
-          نريد أن نأخذ جدول الدوام.
-          تقدروا تهدروا الفلسطينية، نحنا نفهم بزاف.
-          الحمد لله، طلع فيه حد بيفهمنا، طيب أعطينا جدول الدوام لو سمحت.
لعل الموظف قابل فلسطينيين كثر حتى استوعب ما أردنا بسرعة، وعرف أننا فلسطينيين. ودخلنا للمرة الأولى حصة الفرنسية. وبدأت مشاكل اللفظ تلاحقنا، فما اعتدنا بسهولة على لفظ أحرفها. انتهىت الحصة وقصدنا الحيّ. وصلنا، وكالعادة بمرورنا بغرفة الحارس
-          يعطيك العافية.
-          العافية تولع فيك وبأهليك.
فابتسمنا دون فهم لما قال، وسرنا لنقلب صفحة يومنا الأول في الدوام. فتتالت الأيام ونحن نردد على الحارس ما رددناه، ونبتسم لرده الموسيقي لنا، لولا شاهر، الطالب الفلسطيني القديم.
-          شو بتقولوله؟
-          يعطيك العافية. (مبتسمين كالعادة).
-          عشان هيتش بتشرهكم.
-          ليش. (متفاجئين).
-          بتعرفوا شو كان يكوللكم؟
-          لا بس كان كتير منيح.
أخذ شاهر يضحك من قلبه، كأنه لم يضحك في غربته هكذا من قبل. عرفنا لاحقاً أن العافية تعني النار، وأن الحارس كان يدعي علينا بنار  تحرقنا مع أهلنا. وبالرغم من هذا فمحمد هيثم وأنا كنا مصرّين على ألا نتخلى عن هذه الكلمة، وعلى أن نلقيها على الكثيرين، سائق التاكسي، والحارس، وموظف التسجيل، والصرّاف. حتى اليوم إن قال لي محمد، يعطيك العافية، سألته:عافيتنا أم عافيتهم؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ضع تعليقك هنا